الموقع الرسمي

للأستاذ عبدالله بن رابح الشريف

Twitter

العربية والخطاب الإعلامي

عندما أعلنت منظمة الونيسكو شعار الاحتفاء باليوم العالمي للغة العربية هذا العام (اللغة العربية والذكاء الاصطناعي، تعزيز الابتكار مع الحفاظ على التراث الثقافي)، دعاني قلمي للحديث عما يجول بخاطري تجاه لغتنا الجميلة والخالدة الأصيلة، فمع الانتشار الواسع لوسائل الإعلام وتنوع قنواته ومنابره ووسائطه استصحب بهبوط لدى مقدمي البرامج انتهي بالأمر إلى ضعف اللغة العربية، وهيمنة اللهجات العامية المحلية عليها، وقد ترتب على هذا الوضع الذي وصلت إليه اللغة العربية أن دخلت عصر الإعلام الواسع والانتشار وهي تعاني من ضعف المناعة، مما أدى إلى هجوم مكتسح وغزو جارف لما يطلع عليه (لغة الإعلام) على الفصحى فوقع تادخل بين اللغة الفصحى والعامية، نتج عنه لغة ثالثة هجينة، واللغة الثالثة هذه التي صارت لغة الإعلام المعتمدة هي منزلة بين المنزلتين، فلا هي اللغة الفصيحة في قواعدها ومقاييسها وأبنيتها وأصولها، ولا هي لغة عامة لا تلتزم قيوداً ولا تخضع لقياس ولا تسري عليها أحكام، والخطورة تكمن في أنها تحل محل الفصحى، وتنتشر بما هي عليه من ضعف ووهن، وتكتسب هذه اللغة الشرعية ويخلو لها المجال فتصير هي لغة الفكر والأدب والفن والإعلام والإدارة أي لغة الحياة.

بالإضافة إلى تفشي المفردات الأجنبية في ثنايا الخطاب الموجه للجمهور العربي، بل لقد غدت هذه المفردات عناوين لبرامج مشهورة وأسماء لمحطات واسعة الانتشار في الأقطار العربية. كذلك أسماء لكثير من المحلات التجارية والأسواق العامة والمدارس والجامعات والمستشفيات تحمل أسماء أجنبية للتباهي والتفاخر، وشيوع الأخطاء في اللغة العربية وتفشي اللحنة على ألسنة الناطقين بها والتداول الواسع للاقيسة والتراكيب والصيغ والأساليب التي لا تمت بصلة إلى الفصحى. وهذا يتطلب منا أن نقف على حقيقة الوضع اللغوي في الخطاب الإعلامي المعاصر، في هذه المرحلة الحافلة بالمتغيرات الإقليمية والدولية. وليس من المبالغة في شئ في ضوء ذلك قولنا إن هذا الوضع خطير بالمقاييس جميعاً، أو بالمعاني كلها، ومن عدة وجوه، ولكن هذه الخطورة لا تمنع من معالجة الخلل وتطهير البيئة اللغوية في الخطاب الإعلامي من التلوث، وإفساح المجال أمام تنمية لغوية يعاد فيها الاعتبار إلى الفصحى وتستفيم فيها حال اللغة والارتقاء بلغة الخطاب الإعلامي في وسائل الإعلام، وأنا هنا أتحدث عن الواقع الذي تعيشه لغة الخطاب الإعلامي ومظاهر تأثره وصوره بالإضافة إلى تقديم رؤية منهجية يمكن من خلاللها الارتقاء بلغة الخطاب الإعلامي في مستقبلها المأمول.

لقد كانت العربية منذ قرون طويلة وسيلة التواصل والفكر والعلوم والدين فإنها وإن كانت منحصرة في شبه الجزيرة قبل الإسلام قد انتشرت مع انتشار الإسلام وسادت في كل اتجاه وأصبحت وعاء الفكر والدين والحياة بكل تفاصيلها إلى أن اصطدمت بحملات تآمرية لبست في بعض تفاصيلها ثوب البحث العلمي وعكست صور مشوشة لبعض العقليات التي انبهرت بما لدى الغرب من مظاهر فعمدت إلى المنادات بإحلال العاميات مكان الفصحى وإلغاء الكثير من ظواهرها بحجة التيسير والتجديد لمواكبة موجة العولمة في التعليم واللغة والثقافة فكانت هذه الدعوات من أخطر صور المؤامرة على اللغة العربية فأصبحت الآن تواجه صراعاً شديداً بسبب تجدد مظاهر الحضارة والعلوم الإنسانية والتي تفرض بدورها على العربية أن تستوعبها بالإضافة إلى وجود لغات أخرى تنازها الباقء، فكان لابد أن تتفوق عليها وعلى اللهجات العامية التي يسعى مناصروها إلى إحلالها مكانها.

إن وجود لغة محكمة للفكر والأدب والعلم مع لهجات محلية للتعامل، ظاهرة طبيعية عرفتها العربية منذ القدم وتعرفها الأمم في سائر اللغات الحية فاللهجات العربية عايشت الصحى، ولكنها لم تجر عليها ولم تكن في مستوى فصاحتها، فظلت اللغة العربية هي اللغة المثالية وأعلى المستويات الصوابية في الاستعمال اللغوي فكانت وما زالت لغة الدين والدولة والعلوم ووسيلة التخاطب والتواصل الاجتماعي. إن المعارك حول العربية مستمرة، ولا تكاد تهدأ حتى تبدأ من جديد فقد تلونت تلك الحملات بكل الألوان الأيدويولويجة والثقافية وساتخدمت الكثير من المذاهب النفسية ولاجتماعية في محاولة إظهار ضعفها وعدم استيعابها لمتطلبات العصر والصورة التي نراها ونسمعها ونقرأها في وسائل الإعلام العربي اليوم ماهي إلا صورة من تلك الصور المغلفة ولون من ألوان الثقافة الغربية التي تعمد إلى هدم العربية.

إن لغة الخطاب الإعلامي في وسائل الإعلام العربي اليوم لغة ركيكة تعبر في مجملها عن مستوى ثقافي ضحل بعيد عن المبادئ الثقافية للأمة العربية الإسلامية في محتواه وأهدافه وهذا الأمر مدعاة لكل غيور على هذه اللغة التي تعد المقوم الأهم في تشكيل ثقافة الأمة وهويتها للدفاع عنها والذود عن حماها وبذل الجهود لاسترداد الوعي اللغوي واستيعاب الوظيفة السامية للغة ودورها في عودة حضارة الأمة وتحقيق التواصل بين أجيالها بما يوطد لديهم ابتكار الخطط والأساليب لجعل اللغة وعاء يستوعب معالم الحداثة والتطور والارتقاء في العلوم وفي وسائل التخاطب الإنسانية وفي كل مجالات الحياة وبالتالي فإن اللغة العربية هي لغة الرسالة السماوية العالمية الخاتمة ولابد أن تتاح أمامها السبل للامتداد والاستمرار في العطاء ولذلك حاولنا التطرق إلى بعض الصور الواقعية لما آل إليه واقع الخطاب الإعلامي اليوم عبر وسائل الإعلام المختلفة لأن الاهتمام باللغة العربية اهتمام بالقيم السامية للأمة العربية وضرورة الحفاظ عليها سبيل لبقاء تلك القيم وهو أمر بالغ الأهمية لأنها تشكل الضوابط المنهجية لحدود المعاني وأبعاد الخطاب ودلالاته في ساقاته المختلفة، كما تشكل دليل الأحكام والتشريعات والحفاظ عليها حفاظ على النص الإلهي كما نزل شكلا ومضمونا والطريق إلى إدراك مدلولاته ومقاصده وأبعاد خطابه.